21 نوفمبر 2024 | 19 جمادى الأولى 1446
A+ A- A
الاوقاف الكويت

د. سعد الشثري: الاختلافات الفقهية بين العلماء مهما بلغت فهي في مسائل نادرة الوقوع حيث أن مواطن الاتفاق هي الأصل

18 مارس 2018

عبر حقب التاريخ الإسلامي ظل الفقه هو القانون الضابط والمنظم لشؤون الناس وحاجاتهم الاجتماعية، فضلا عن كونه قد احتل المرتبة الأولى في سلم الإرث المعرفي والمنتج الفكري لحضارة المسلمين طيلة قرون تشكلت فيها ملامح المذاهب الفقهية، حتى تم اكتمال واستقرار منهاجياتها في استنباط أحكام الشرع بعد وفاة مؤسِّسيها، بفضل جهود جمهور من التلاميذ والأتباع المخلصين في كل مذهب على اختلاف رؤاهم وتنوع مدارسهم الفكرية.
حول موضوع الاختلافات الفقهية بين علماء الأمة الأوائل تحدث فضيلة الدكتور سعد بن ناصر الشثري، عضو هيئة كبار العلماء والمستشار بالديوان الملكي السعودي، لافتا إلى ضرورة دراسة ذلك التنوع والاختلاف في استنباط الأحكام بين العلماء، ومشددا على أهمية الموضوع في حياة المسلمين، وخصوصا طلبة العلم الذين يتدارسون ذلك في الكتب والمؤلفات الفقهية، فالمذاهب على اختلافها ما هي إلا طرائق للتعلم، يستفيد منها الإنسان في معرفة أسلوب الأولين في استخراج الأحكام من الأدلة الشرعية.
ويقول د. الشثري أن الناس في مجملهم على صنفين: فقيه مجتهد، يأخذ أحكام ما يحتاج إليه من وقائع من الكتاب والسنة، ويعتمد على أصول الشريعة.
والصنف الثاني من ليس متخصصا، فهذا من الواجب عليه أن يرجع إلى فقيه زمانه، فيسأله ويأخذ منه، امتثالا لقول المولى عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
إلا أنه من أهم الحقائق التي ينبغي أن تبقى نصب أعيننا أن نعي تماما أن الاختلافات الفقهية مهما بلغت فهي في مجملها قليلة، وأن المسائل التي وقع الاتفاق عليها أكثر بكثير، حيث أن مواطن الاختلاف نادرة الوقوع، وغير متكررة أو معتادة في حياة عموم الناس.
من هنا فإن من المناسب أن نتدارس هذا العلم؛ علم أسباب اختلاف الفقهاء، لنعذر الأئمة الأوائل ونعرف قيمتهم ومنزلتهم، ثم من جهة أخرى لنتدرب على استخراج الأحكام من الأدلة.
ومن اللافت أننا كثيرا ما نجد أن بعض الأئمة كانوا يقررون في كتبهم آراء فقهية بناء على المذهب الذي ينتسبون إليه، حتى وإن لم يكونوا يرجحون هذا القول ويرجحون خلافه، كما هو الحال مع قدامى الفقهاء أمثال ابن عبد البر المالكي، وابن قدامة الحنبلي، والنووي الشافعي، وغيرهم من جماعات أهل العلم.
من ثم إذا أردنا أن نتباحث حول أسباب الاختلاف، فإن الهدف من ذلك سيكون إدراك عدد من الأمور؛ أولها معرفة قدر الأئمة الأوائل الذين اجتهدوا وأصَّلوا، وبذلك نكون ممن سار على المنهج الشرعي في رفع مكانة العلم وأهله، فضلا عن إدراك أن الاختلافات الفكرية التي كانت بينهم ليست ضربا من الفوضوية، بل لها أسباب بنيت عليها، ينال بها المصيب الأجر، ويعذر منها المخطئ.
الأمر الثاني لبحث هذا الموضوع هو معرفة طريقة التعامل مع الاختلاف الفقهي، كيف يتناول الفقيه تلك الاختلافات، وكيف يتلقاها عامة الناس كذلك.
الأمر الثالث أن نأخذ طرائق ونماذج تطبيقية في الحكم على المسائل، وتبيان حكم الله عز وجل فيها، فإننا متى عرفنا أسباب اختلاف العلماء، عرفنا الطريقة التي سلكوها من أجل أن يصلوا للحكم الشرعي.
والناظر في الأسس التي انطلقت منها الاختلافات الفقهية، يجد أنها تعود إلى أربعة أسباب رئيسة:
السبب الأول متعلق بالاستدلال بالكتاب، والاختلاف في طرائق الاستنباط والاجتهاد، فإن الفقهاء وإن اتفقوا على حجية الآية، إلا أنهم قد يختلفون في قواعد الفهم والاستنباط، وبالتالي يقع عندهم اختلاف في المسألة الواحدة، من أمثلة هذا ما جاء في الآية: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء:23] واختلف في تفسيره كثير من الفقهاء.
السبب الثاني أنه قد يقع الاختلاف بسبب الأحاديث النبوية، سواء لكون الحديث لم يصل إلى الفقيه، أو لكون الفقيه يرى أن الحديث له شروط لا تتوافر في هذا الخبر الذي استند إليه في هذا الباب، سواء من جهة الإسناد أو من جهة قواعد الاستنباط.
السبب الثالث اختلاف الفقهاء فيما يتعلق بطريقة التعامل مع ما قد يظن أنه تعارض بين الأدلة الشرعية، فإذا وجد ثمة تعارض، فهل يؤخذ بالتخصيص؟ أو بالتقييد؟ وكذلك هل يقال فيه بالنسخ؟ أم يقال بالترجيح؟ وما هي قاعدة الترجيح التي تتناسب مع ذلك؟ وقد تتنازع المسألة الواحدة قواعد ترجيحية متعددة.
ثم هناك سبب رابع وهو الاختلاف اللغوي، حيث كانت لغة العرب متسعة وثرية، وكثيرا ما كان يقع الاختلاف في مدلول لفظ، وبالتالي يأخذ أحد الفقهاء بمعنى، ويأخذ ثان بمعنى آخر، كقوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، فإن لفظة "قروء" في هذه الآية وقع الاختلاف فيها نتيجة الاختلاف في مدلولها في لغات العرب.
وخلاصة القول أن من فضل الله عز وجل على الأمة أن جعل العلم فيها باقيا إلى قيام الساعة، ومن مقتضى ذلك أن يبقى الفقهاء إلى آخر الزمان يرشدون الناس إلى أحكام الله عز وجل في الوقائع والنوازل التي تنزل بهم، أخذا بحديث نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ) [رواه أحمد]، ومن ثم سيظل في هذه الأمة من هو قائل بالحق، وسيبقى قوله ظاهرا منتشرا حتى يرث الله الأرض وما عليها.

القائمة البريدية

انضم للقائمة البريدية للموقع ليصلك كل جديد

جميع الحقوق محفوظه لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - دولة الكويت